سورة البقرة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


ولما أبهم الأمر أولاً في الأيام وجعله واجباً مخيراً على المطيق عين هنا وبت الأمر فيه بقوله تعالى: {شهر رمضان} لأن ذلك أضخم وآكد من تعيينه من أول الأمر. قال الحرالي: والشهر هو الهلال الذي شأنه أن يدور دورة من حين أن يهل إلى أن يهل ثانياً سواء كانت عدة أيامه تسعاً وعشرين أو ثلاثين، كلا العددين في صحة التسمية بالشهر واحد، فهو شائع في فردين متزايدي العدد بكمال العدة كما يأتي أحد الفردين لمسماه رمضان، يقال: هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، واشتقاقه من الرمضاء وهو اشتداد حر الحجارة من الهاجرة، كأن هذا الشهر سمي بوقوعه زمن اشتداد الحر بترتيب أن يحسب المحرم من أول فصل الشتاء أي ليكون ابتداء العام أول ابتداء خلق بإحياء الأرض بعد موتها، قال: وبذلك يقع الربيعان في الربيع الأرضي السابق حين تنزل الشمس الحوت والسماوي اللاحق حين تنزل الشمس الحمل، وقال: إنه لما وقع لسابقة هذه الأمة صوم كصوم أهل الكتاب كما وجهوا إلى القبلة أولاً بوجه أهل الكتاب تداركه الإرفاع إلى حكم الفرقان المختص بهم، فجعل صومهم القار لهم بالشهر لأنهم أهل شهور ناظرون إلى الأهلة ليسوا بالمستغرقين في حساب الشمس، فجعل صومهم لرؤية الشهر وجعل لهم الشهر يوماً واحداً فكأنهم نقلوا من صوم أيام معدودات إلى صوم يوم واحد غير معدود لوحدته، لأنهم أمة أمية {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} [الأعراف: 142] هي ميقات أمة محمد صلى الله عليه وسلم {وأتممناها بعشر} [الأعراف: 142] هي ميقات موسى عليه الصلاة والسلام وأمته ومن بعده من الأمم إلى هذه الأمة- انتهى.
ولما كان هذا خطاب إرقاء مدحه سبحانه وتعالى بإنزال الذكر فيه جملة إلى بيت العزة وابتدئ من إنزاله إلى الأرض. قال الحرالي: وأظهر فيه وجه القصد في الصوم وحكمته الغيبية التي لم تجر في الكتب الأول الكتابي فقال: {الذي أنزل فيه القرآن} فأشعر أن في الصوم حسن تلق لمعناه ويسراً لتلاوته، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل، وهو صيغة مبالغة من القرء وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح- انتهى. وفي مدحه بإنزاله فيه مدح للقرآن به من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن ليوقف على حقيقة ما أتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة من أنه {لا ريب فيه} [البقرة: 2] وأنه {هدى} البقرة: 2] على وجه أعم من ذلك الأول فقال سبحانه وتعالى: {هدى للناس} قال الحرالي: فيه إشعار بأن طائفة الناس يعليهم الصوم أي بالتهيئة للتدبر والفهم وانكسار النفس إلى رتبة الذين آمنوا والمؤمنين ويرقيهم إلى رتبة المحسنين، فهو هدى يغذو فيه فقد الغذاء القلب كما يغذو وجوده الجسم ولذلك أجمع مجربة أعمال الديانة من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه أن مفتاح الهدى إنما هو الجوع وأن المعدة والأعضاء متى أوهنت لله نور الله سبحانه وتعالى القلب وصفى النفس وقوى الجسم ليظهر من أمر الإيمان بقلب العادة جديد عادة هي لأوليائه أجل في القوة والمنة من عادته في الدنيا لعامة خلقه؛ وفي إشارته لمح لما يعان به الصائم من سد أبواب النار وفتح أبواب الجنة وتصفيد الشياطين، كل ذلك بما يضيق من مجاري الشيطان من الدم الذي ينقصه الصوم، فكان فيه مفتاح الخير كله؛ وإذا هدى الناس كان للذين آمنوا أهدى وكان نوراً لهم وللمؤمنين أنور، كذلك إلى أعلى رتب الصائمين العاكفين الذاكرين الله كثيراً الذين تماسكوا بالصوم عن كل ما سوى مجالسة الحق بذكره.
وفي قوله: {وبينات} إعلان بذكر ما يجده الصائم من نور قلبه وانكسار نفسه وتهيئة فكره لفهمه ليشهد تلك البينات في نفسه وكونها {من الهدى} الأعم الأتم الأكمل الشامل لكافة الخلق {والفرقان} الأكمل، وفي حصول الفرقان عن بركة الصوم والذي هو بيان رتب ما أظهر الحق رتبه على وجهه إشعار بما يؤتاه الصائم من الجمع الذي هو من اسمه الجامع الذي لا يحصل إلا بعد تحقق الفرقان، فإن المبني على التقوى المنولة للصائم في قوله في الكتب الأول: {لعلكم تتقون} فهو صوم ينبني عليه تقوى ينبني عليها فرقان كما قال تعالى: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} [الأنفال: 29] ينتهي إلى جمع يشعر به نقل الصوم من عدد الأيام إلى وحدة الشهر- انتهى. فعلى ما قلته المراد بالهدى الحقيقة، وعلى ما قاله الحرالي هو مجاز علاقته السببية لأن الصوم مهيئ للفهم وموجب للنور، {الهدى} المعرف الوحي أعم من الكتاب والسنة أو أم الكتاب أو غير ذلك، وعلى ما قال الحرالي يصح أن يراد به القرآن الجامع للكتب كلها فيعم الكتب الأول للأيام، والفرقان هو الخاص بالعرب الذي أعرب عن وحدة الشهر. ولما أتم ما في ذكر الشهر من الترغيب إثر التعيين ذكر ما فيه من عزيمة ورخصة فقال: {فمن شهد} أي حضر حضوراً تاماً برؤية بينة لوجود الصحو من غير غمام أو بإكمال عدة شعبان إن كان غيم ولم يكن مريضاً ولا مسافراً. قال الحرالي: وفي شياعه إلزام لمن رأى الهلال وحده بالصوم. وقوله: {منكم} خطاب الناس ومن فوقهم حين كان الصيام معلياً لهم {الشهر} هو المشهود على حد ما تقول النحاة مفعول على السعة، لما فيه من حسن الإنباء وإبلاغ المعنى، ويظهر معناه قوله تعالى: {فليصمه} فجعله واقعاً على الشهر لا واقعاً على معنى: فيه، حيث لم يكن: فليصم فيه؛ وفي إعلامه صحة صوم ليلة ليصير ما كان في الصوم الأول من السعة بين الصوم والفطر للمطيق واقعاً هنا بين صوم الليل وفطره لمن رزق القوة بروح من الله تعالى- انتهى.
ولما نسخ بهذا ما مر من التخيير أعاد ما للمريض والمسافر لئلا يظن نسخه فقال: {ومن كان مريضاً} أي سواء شهده أولا {أو على سفر} أي سواء كان مريضاً أو صحيحاً وهو بين بأن المراد شهوده في بلد الإقامة {فعدة} قال الحرالي: فمرد هذا الخطاب من مضمون أوله فمعناه: فصومه عدة، من حيث لم يذكر في هذا الخطاب الكتب، ليجري مرد كل خطاب على حد مبدئه. وفي قوله: {من أيام أخر} إعلام بأن القضاء لم يجر على وحدة شهر لاختصاص الوحدة بشهر رمضان ونزول قضائه منزلة الصوم الأول، وفي عدده وفي إطلاقه إشعار بصحة وقوعه متتابعاً وغير متتابع- انتهى. ولما رخص ذلك علل بقوله: {يريد الله} أي الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره {بكم اليسر} أي شرع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر وبقصر الصوم على شهر {ولا يريد بكم العسر} في جعله عزيمة على الكل وزيادته على شهر. قال الحرالي: اليسر عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم. وقال: فيه إعلام برفق الله بالأجسام التي يسر عليها بالفطر، وفي باطن هذا الظاهر إشعار لأهل القوة بأن اليسر في صومهم وأن العسر في فطر المفطر، ليجري الظاهر على حكمته في الظهور ويجري الباطن على حكمته في البطون، إذ لكل آية منه ظهر وبطن، فلذلك والله سبحانه وتعالى أعلم «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في رمضان في السفر ويأمر بالفطر» وكان أهل القوة من العلماء يصومون ولا ينكرون الفطر- انتهى. قال الشعبي: إذا اختلف عليك أمران فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لهذه الآية.
ولما كانت علة التيسير المؤكد بنفي التعسير الإطاقة فكان التقدير: لتطيقوا ما أمركم به ويخف عليكم أمره، عطف عليه قوله: {ولتكملوا} من الإكمال وهو بلوغ الشيء إلى غاية حدوده في قدر أو عد حساً أو معنى {العدة} أي عدة أيام رمضان إلى رؤية الهلال إن رأيتموه وإلى انتهاء ثلاثين التي لا يمكن زيادة الشهر عليها إن غم عليكم بوجود الغمام فلم تشهدوه، فإنه لو كلفكم أكثر منه أو كان إيجابه على كل حال كان جديراً بأن تنقصوا من أيامه إما بالذات بأن تنقصوا من عدتها أو بالوصف بأن تأكلوا في أثنائها كما تفعل النصارى، فيؤدي ذلك إلى إعدامها أصلاً ورأساً. وقال الحرالي: التقدير: لتوفوا الصوم بالرؤية ولتكملوا إن أغمي عليكم، ففي هذا الخطاب تعادل ذكر الصحو في الابتداء بقوله: {شهد} وذكر الغيم في الانتهاء بالإكمال- انتهى.
وفيه إشارة إلى احتباك، فإن ذكر الشهود أولاً يدل على عدمه ثانياً وذكر الإكمال لأجل الغمام ثانياً يدل على الصحو أولاً.
ولما كان العظيم إذا يسر أمره كان ذلك أجدر بتعظيمه قال: {ولتكبروا} والتكبير إشراف القدر أو المقدار حساً أو معنى- قاله الحرالي. وقرن به الاسم الأكبر لاقتضاء المقام له فقال: {الله} أي الذي تقف الأفهام خاسئة دون جلاله وتخضع الأعناق لسبوغ جماله لتعتقدوا عظمته بقلوبكم وتذكروها بألسنتكم في العيد وغيره ليكون ذلك أحرى بدوام الخضوع من القلوب. قال الحرالي: وفيه إشارة إلى ما يحصل للصائم بصفاء باطنه من شهود ما يليح له أثر صومه من هلال نوره العلي، فكما كبر في ابتداء الشهر لرؤية الهلال يكبر في انتهائه لرؤية باطنه مرأى من هلال نور ربه، فكان عمل ذلك هو صلاة ضحوة يوم العيد، وأعلن فيها بالتكبير وكرر لذلك، وجعل في براح من متسع الأرض لمقصد التكبير لأن تكبير الله سبحانه وتعالى إنما هو بما جلّ من مخلوقاته، فكان في لفظه إشعار لما أظهرته السنة من صلاة العيد على اختصاصها بتكبير الركعتين والجهر لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنما يكون علناً- انتهى. ومن أعظم أسراره أنه لما كان العيد محل فرح وسرور وكان من طبع النفس تجاوز الحدود لما جبلت عليه من الشره تارة غفلة وتارة بغياً أمر فيه به ليذهب من غفلتها ويكسر من سورتها، ولما كان للوترية أثر عظيم في التذكير بالوتر الصمد الواحد الأحد وكان للسبعة منها مدخل عظيم في الشرع جعل تكبير صلاته وتراً وجعل سبعاً في الأولى لذلك وتذكيراً بأعمال الحج السبعة من الطواف والسعي والجمار تشويقاً إليها لأن النظر إلى العيد الأكبر أكثر وتذكيراً بخالق هذا الوجود بالتفكر في أفعاله المعروفة من خلق السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهما في الأيام السبع لأنه خلقهما في ستة وخلق آدم في اليوم السابع يوم الجمعة، ولما جرت عادة الشارع بالرفق بهذه الأمة ومنه تخفيف الثانية على الأولى وكانت الخمسة أقرب وتراً إلى السبعة من دونها جعل تكبير الثانية خمساً لذلك، ولأنه لما استحضرت عظمة الخالق بإشارة الأولى للعلم بأنه المتفرد بالعظمة والقهر والملك بجميع الأمر فأقبلت القلوب إليه وقصرت الهمم عليه أشير بتكبير الثانية إلى عبادته بالإسلام المبني على الدعائم الخمس وخصوصاً بأعظم دعائمه الصلوات الخمس- والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما كانت الهداية تطلق تارة على مجرد البيان وتارة عليه مع الحمل على لزوم المبين وكان تخفيف المأمور به وتسهيله أعون على لزومه قال: {على} أي حامدين له على {ما هداكم} أي يسر لكم من شرائع هذا الدين فهيأكم للزومها ودوام التمسك بعراها، ولعل هذا سر الاهتمام بالصيام من الخاص والعام حتى لا يكاد أحد من المسلمين يخل به إلا نادراً- والله سبحانه وتعالى الموفق.
وقال الحرالي: إن الهداية إشارة إلى تلك الموجدة التي يجدها الصائم وما يشهده الله من بركاته من رؤية ليلة القدر بكشف خاص لأهل الخلوة أو آيات بينة لأهل التبصرة أو بآية بادية لأهل المراقبة كلاًّ على حكم وجده من استغراق تماسكه وخلوته واستغراق ذكره في صومه، فأعظم الهدى هدى المرء لأن يذبل جسمه ونفسه وتفنى ذاته في حق ربه، كما يقول: «يدع طعامه وشرابه من أجلي» فكل عمل فعل وثبت إلاّ الصوم فإنه محو وفقد، فناسب تحقيق ما هو الإسلام والتقوى من إلقاء منة الظاهر وقوة الباطن- انتهى.
ولما كان الشكر صرف ما أنعمه المنعم في طاعته وكان العمل إذا خف أقرب إلى لزوم الطاعة بلزومه ولو ثقل لأوشك أن يعصي بتركه قال: {ولعلكم تشكرون} أي ولتكونوا في حالة يرجى معها لزوم الطاعة واجتناب المعصية. وقال الحرالي: فيه تصنيف في الشكر نهاية كما كان فيه تصنيف للتقوى بداية، كما قال: {ولعلكم تتقون} فمن صح له التقوى ابتداء صح منه الشكر انتهاء؛ وفي إشعاره إعلام بإظهار نعمة الله وشكر الإحسان الذي هو مضمون فرض زكاة الفطر عن كل صائم وعمن يطعمه الصائم، فكان في الشكر إخراجه فطره بختم صومه واستقبال فطره بأمر ربه وإظهار شكره بما خوله من إطعام عيلته، فلذلك جرت فيمن يصوم وفيمن يعوله الصائم- انتهى.
ولما كان دعاء الصائم مجاناً وكان هذا الشهر بالخصوص مظنة الإجابة للصيام ولمكان ليلة القدر وكان ذكر كبريائه سبحانه وتعالى مهيئاً لعباده للإحساس بالبعد فكان ربما أوقع في وهم أنه على عادة المتكبرين في بعد المسافة عن محالّ العبيد وأنه إن كان بحيث يسمع لم يكن لأحد منهم أن يسأله إلا بواسطة رفع هذا الوهم بقوله: {وإذا} دالاً بالعطف على غير مذكور أن التقدير: فإذا سألك عبادي عني فإني مع علو شأني رقيب على من أطاعني ومن عصاني {وإذا}، وقال الحرالي: لما أثبت الحق سبحانه وتعالى كتاب الصيام لعباده لما أرادهم له من إعلائهم إلى خبء جزائه وأطلعهم على ما شاء في صومهم من ملكوته بحضور ليلة القدر فأنهاهم إلى التكبير على عظيم ما هداهم إليه واستخلفهم في فضله وشكر نعمته بما خولهم من عظيم فضله وأظهر عليهم من رواء بركاته ما يدعو الناظرين لهم إلى سؤالهم عما نالوه من ربهم فيليحون لمن دونهم ما به يليق بهم رتبة رتبة؛ يؤثر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه فكأنما يتكلمان بلسان أعجم لا أفهم مما يقولان شيئاً» إلى أن ينتهي الأمر إلى أدنى السائلين الذين هم في رتبة حضرة بعد فيبشرون بمطالعة القرب فقال: و{إذا} عطفاً على أمور متجاوزة كأنه يقول: إذا خرجت من معتكفك فصليت وظهرت زينة الله التي باهى بها ملائكته ليست زينة الدنيا التي يتمقتها أهل حضرته من ملائكته فإذا سألك من حاله كذا فأنبئه بكذا وإذا سألك من حاله كذا فأنبئه بكذا وإذا {سألك عبادي عني} أي هل أنا على حال المتكبرين من ملوك الدنيا في البعد عمن دونهم فأخبرهم أني لست كذلك.
ولما كان لا يسأل عن الشيء إلاّ إن كان معظماً له متشوقاً إلى تعجيل الإخبار به كان الأنسب للمقام والأقرّ لعيون العباد والأزجر لأهل العناد تقريب الجواب وإخباره سبحانه وتعالى بنفسه الشريفة دون واسطة إشعاراً بفرط قربه وحضوره مع كل سائل فقال: {فإني} دون فقل إني، فإنه لو أثبت قل، لأوهم بُعداً وليس المقام كذلك، ولكان قوله إني، موهماً فيحتاج إلى أن يقال إن الله أو نحوه، ومع ذلك فلا ينفك عن إشكال؛ وإذا كان هذا التلطف بالسائلين فما ظنك بالسالكين السائرين! وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري ما معناه: الذين يسألون عن الجبال وعن اليتامى وعن المحيض وعن الأهلة ونحوها يجابون بالواسطة، وأما الذين يسألون عني فإني أرفع الوسائط بيني وبينهم. وقال الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن ميلق ما معناه: إنه سبحانه وتعالى لما كان قد تعرف إلى عباده بأفعاله وآياته وما ركز في العقول من معرفته كان حذف الواسطة في الإخبار عنه أنسب بخلاف الأهلة ونحوها فإن العقول لا تستقل بمعرفتها، فكان الإخبار عنها بواسطة الرسول الذي لا تعرف إلا من جهته أنسب. {قريب} فعيل من القرب وهو مطالعة الشيء حساً أو معنى أي من طلبني بعقله وجدني وعرفني وإنما أرسلت الرسل زيادة في التعرف ورفعاً للحرج بسر التلطف، وإسقاط قل، أسرع في التعرف فهو أجدر بتعظيم الواسطة لأن الإسراع في الإجابة أقرب دلالة على صدقه في الرسالة. قال الحرالي: بشر أهل حضرة البعد بالقرب لما رقي أهل القرب إلى الوصول بالقرب فكان المبشر واصلاً وكان المتقاصر عن القرب مبشراً به، ومعلوم أن قرب الله وبعد المخلوق منه ليس بعد مسافة ولا قرب مسافة، فالذي يمكن إلاحته من معنى القرب أن من سمع فيما يخاطب به خطاب ربه فهو قريب ممن كان ذلك الخطاب منه، ومن كان إنما يسمع الخطاب ممن واجهه بالخطاب في حسه ومحسوسه فسمعه ممن دون ربه كان بعيداً بحسب تلك الواسطة من بعد دون بعد إلى أبعد البعد، ولذلك يعلن للنبي صلى الله عليه وسلم {إنما عليك البلاغ} [الرعد: 40] وكان أن ما يتلوه لأمته إنما هو كلام ربه يتلو لهم كلام ربهم ليسمعوه من ربهم لأمته حتى لا يكون صلى الله عليه وسلم واسطة بين العبد وربه بل يكون يوصل العبد إلى ربه، وللإشارة بهذا المعنى يتلى كلمة قل، في القرآن ليكون إفصاحاً لسماع كلام الله سبحانه وتعالى ممن سمع كائناً من كان، وفي إشعاره إهزاز القلوب والأسماع إلى نداء الحج إثر الصوم، لأنه جعل تعالى أول يوم من شهور الحج إثر يوم من أيام الصوم، فكأن منادي الله ينادي يوم الفطر بالحج، ففي خفي إشارته إعلاء نداء إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم أساس أمر الإسلام على حنيفيته وملته، وليكون في هذه الآية الجامعة توطئة لذكر الحج لما تقدم من أن هذه السورة تنتظم جوامعها خلال تفاصيلها انتظاماً عجيباً يليح المعنى لأهل الفهم ويفصله لأهل العلم ثم يحكم به على أهل الحكم قال: {أجيب} من الإجابة وهي اللقاء بالقول ابتداء شروع لتمام اللقاء بالمواجهة {دعوة الداع} ففيه إشعار بإجابة الداعي أي للحج عند خاتمة الصوم يعني لما بين العبادتين من تمام المناسبة، فإن حال الصوم التابع لآية الموت في كونه محواً لحال البرزخ وحال الحج في كونه سفراً إلى مكان مخصوص على حال التجرد كحال الحشر؛ قال: وجاء الفطر يعني بعد إكمال الصوم بما يعين على إجابة دعوة الوفادة على الله سبحانه وتعالى إثر الخلوة في بيت الله ليكون انتقالهم من بيت خلوته بالعكوف إلى موقف تجليه في الحج، وفيه تحقيق للداعي من حاله ليس الداعي من أغراضه وشهواته، فإن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوة العبد إذا كان فيه رشد وإلا ادخرها له أو كفر بها عنه كما بينه صلى الله عليه وسلم.
ولما كان كل خلق داعياً لحاجته وإن لم ينطق بها أشار تعالى إلى مقصد إظهار الدعاء مقالاً وابتهالاً فقال: {إذا دعان} ليكون حاله صدقاً بمطابقة حاله مقالاً، وفي قراءة الاكتفاء بكسرة {الداع} و{دعان} عن ياءيهما وقراءة تمكينهما توسعة القراءة بما تيسر على قبائل العرب بحسب ما في ألسنة بعضها من التمكين وما في ألسنة بعضها من الحذف {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} [القمر: 17] وفي إجابته حجة عليهم بأن السيد إذا التزم إجابة عبده كان إجابة العبد لسيده أوجب التزاماً لاستغناء السيد وحاجة العبد، فحين كان الغني مجيباً كان أولى بأن يكون المحتاج مستجيباً يعني فلذلك سبب عنه قوله إشارة إلى شرط الإجابة {فليستجيبوا لي} إنباء عما قد دعاهم إليه من قربه وقصد بيته بما جبلهم عليه من حاجتهم إليه، وجاء بصيغة الاستفعال المشعر باستخراج الإجابة مما شأنه الإباء لما في الأنفس من كره فيما تحمل عليه من الوصول إلى بيت لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس- انتهى وفيه تصرف. ولما أوجب استجابته سبحانه في كل ما دعا إليه وكانت الاستجابة بالإيمان أول المراتب وأولاها وكانت مراتب الإيمان في قوته وضعفه لا تكاد تتناهى قال مخاطباً لمن آمن وغيره: {وليؤمنوا بي} أي مطلق الإيمان أو حق الإيمان، ثم علل ذلك بقوله: {لعلهم يرشدون} أي ليكونوا على رجاء من الدوام على إصابة المقاصد والاهتداء إلى طريق الحق.
قال الحرالي: والرشد حسن التصرف في الأمر حساً أو معنى في دين أو دنيا، ومن مقتضى هذه الآية تتفضل جميع أحوال السالكين إلى الله سبحانه وتعالى من توبة التائب من حد بعده إلى سلوك سبيل قربه إلى ما يؤتيه الله من وصول العبد إلى ربه- انتهى.


ولما تصوروا لهذه الآية الشريفة قربه وحبه على عظمته وعلوه فتذكروا لذيذ مخاطبته فيما قبل فاشتاقوا إليها وكان قد يسر لهم أمر الصوم كما على جميعهم وكيفاً على أهل الضرورة منهم كانوا كأنهم سألوه التيسير على أهل الرفاهية فيما حرم عليهم كما حرم على أهل الكتاب والوطء في شهر الصوم والأكل بعد النوم فقال تحقيقاً للإجابة والقرب: {أحل لكم} فأشعر ذلك بأنه كان حراماً {ليلة} أي في جميع ليلة {الصيام الرفث} وهو ما يواجه به النساء في أمر النكاح، فإذا غير فلا رفث عند العلماء من أهل اللغة، ويدل عليه وصله بحرف الانتهاء بياناً لتضمين الإفضاء أي مفضين {إلى نسائكم} بالجماع قولاً وفعلاً، وخرج بالإضافة نساء الغير.
ولما كان الرفث والوقاع متلازمين غالباً قال مؤكداً لإرادة حقيقة الرفث وبيان السبب في إحلاله: {هن} أي نساؤكم {لباس لكم} تلبسونهن، والمعنى: أبيح ذلك في حالة الملابسة أو صلاحيتها، وهو يفهم أنه لا يباح نهاراً- والله سبحانه وتعالى أعلم؛ ويجوز أن يكون تعليلاً لأن اللباس لا غنى عنه والصبر يضعف عنهن حال الملابسة والمخالطة.
ولما كان الصيام عامّاً للصنفين قال: {وأنتم لباس لهن} يلبسنكم، ثم علل ذلك بقوله مظهراً لعظمة هذه الأمة عنده في إرادته الرفق بها {علم الله} أي المحيط علمه ورحمته وله الإحاطة الكاملة كما قدم من كونه قريباً اللازم منه كونه رقيباً {أنكم كنتم تختانون} أي تفعلون في الخيانة في ذلك من المبادرة إليه فعل الحامل نفسه عليه، والخيانة التفريط في الأمانة، والأمانة ما وضع ليحفظ، روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: «لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله عزّ وجلّ: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم}»، روى البخاري والترمذي والنسائي عن البراء أيضاً رضي الله تعالى عنه قال: كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها وإن صرمة بن قيس الأنصاري رضي الله تعالى عنه فذكر حديثه في نومه قبل الأكل وأنه غشي عليه قبل انتصاف النهار فنزلت الآية.
ولما كان ضرر ذلك لا يتعداهم قال: {أنفسكم}، ثم سبب عنه قوله: {فتاب عليكم}. قال الحرالي: ففيه يسر من حيث لم يؤاخذوا بذنب حكم خالف شرعة جبلاتهم فعذرهم بعلمه فيهم ولم يؤاخذهم بكتابه عليهم، وفي التوب رجوع إلى مثل الحال قبل الذنب «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وكانت هذه الواقعة لرجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ليجتمع اليمن في الطائفتين، فإن أيمن الناس على الناس من وقع في مخالفة فيسر الله حكمها بوسيلة مخالفته، كما في هذه الآية التي أظهر الله سبحانه وتعالى الرفق فيها بهذه الأمة من حيث شرع لها ما يوافق كيانها وصرف عنها ما علم أنها تختان فيه لما جبلت عليه من خلافه، وكذلك حال الآمر إذا شاء أن يطيعه مأموره يأمره بالأمور التي لو ترك ودواعيه لفعلها وينهاه عن الأشياء التي لو ترك ودواعيه لاجتنبها، فبذلك يكون حظ حفظ المأمور من المخالفة، وإذا شاء الله تعالى أن يشدد على أمة أمرها بما جبلها على تركه ونهاها عما جبلها على فعله، فتفشوا فيها المخالفة لذلك، وهو من أشد الآصار التي كانت على الأمم فخفف عن هذه الأمة بإجراء شرعتها على ما يوافق خلقتها، فسارع سبحانه وتعالى لهم إلى حظ من هواهم، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربك يسارع إلى هواك» ليكون لهم حظ مما لنبيهم كليته، وكما قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله تعالى عنه: «اللّهم! أدر الحق معه حيث دار» كان صلى الله عليه وسلم يأمر الشجاع بالحرب ويكف الجبان عنه، حتى لا تظهر فيمن معه مخالفة إلا عن سوء طبع لا يزعه وازع الرفق، وذلك قصد العلماء الربانيين الذين يجرون المجرب والمدرب على ما هو أليق بحاله وجبلة نفسه وأوفق لخلقه وخلقه، ففيه أعظم اللطف لهذه الأمة من ربها ومن نبيها ومن أئمة زمانها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى سمعت أن فارس والروم يصنعون ذلك فلا يضر ذلك أولادهم شيئاً» لتجري الأحكام على ما يوافق الجبلات وطباع الأمم لكونه رسولاً إلى الناس كافة على اختلاف طباعهم، وما في السنة والفقه من ذلك فمن مقتبسات هذا الأصل العلي الذي أجرى الله سبحانه وتعالى الحكم فيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على وفق ما تستقر فيه أمانتهم وتندفع عنهم خيانتهم. وفي قوله: {وعفا عنكم} أي بمحو أثر الذنب إشعار بما كان يستحق ذلك من تطهر منه من نحو كفارة وشبهها، ولما كان ما أعلى إليه خطاب الصوم صوم الشهر على حكم وحدته الآتية على ليلة ونهاره إعلاء عن رتبة الكتب الأول التي هي أيام معدودات مفصول ما بين أيامها بلياليها ليجري النهار على حكم العبادة والليل على حكم الطبع والحاجة فكان في هذا الإعلاء إطعام الضعيف مما يطعمه الله ويسقيه لا لأنّه منه أخذ بطبع بل بأنه حكم عليه حكم بشرع حين جعل الشرعة على حكم طباعهم، كما قال في الساهي: «إنما أطعمه الله وسقاه»، وفيه إغناء القوي عن الطعام والشراب كما قال عليه الصلاة والسلام: «إني لست كهيئتكم»، فكان يواصل، وأذن في الوصال إلى السحر، فكما أطعموا وسقوا شرعة مع تمادي حكم الصوم فكذلك أنكحوا شرعة مع تمادي حكمه، فصار نكاحهم ائتماراً بحكم الله لا إجابة طبع ولا غرض نفس فقال: {فالآن} أي حين أظهر لكم إظهار الشرعة على العلم فيكم وما جبلت عليه طباعكم فسدت عنكم أبواب المخالفة التي فتحت على غيركم {باشروهن} حكماً، حتى استحب طائفة من العلماء النكاح للصائم ليلاً حيث صار طاعة، وهو من المباشرة وهي التقاء البشرتين عمداً {وابتغوا} أي اطلبوا بجد ورغبة {ما كتب الله} أي الذي له القدرة الكاملة فلا يخرج شيء عن أمره {لكم} أي من الولد أو المحل الحل، وفيه إشعار بأن ما قضي من الولد في ليالي رمضان نائل بركة ذرئه على نكاح أمر به حتى كان بعض علماء الصحابة يفطر على النكاح.
{وكلوا واشربوا} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء وقال: «إن الماء طهور»، وفي تقديم الأكل إجراء لحكم هذا الشرع على وفق الطبع- انتهى. ولأنه سبب العطش، ودل على وجوب تبييت النية وجواز تأخير الغسل إلى النهار، بقوله: {حتى} فإن في جعل تبين الفجر غاية لحل المفطرات إيجاباً لمراقبته للكف عنها، وذلك هو حقيقة النية، ومن استمر مباشراً إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال ليلاً وقال: {يتبين} قال الحرالي: بصيغة يتفعل وهو حيث يتكلف الناظر نظره، وكأن الطالع، يتكلف الطلوع، ولم يقل: يبين، لأن ذلك يكون بعد الوضوح- انتهى. وفي قوله: {لكم} بيان لأن الأحكام بحسب الظاهر وأن التكليف بما في الوسع {الخيط الأبيض} قال الأصبهاني: وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود. وقال الحرالي: فمد إلى غاية انتهاء الليل وتبين حد النهار بأرق ما يكون من مثل الخيط {من الخيط الأسود} قال الأصبهاني: وهو ما يمتد معه من غبش الليل أي البقية من الليل، وقيل: ظلمة آخر الليل، شبها بخطين أبيض وأسود. وقال الحرالي: ففيه إنهاض لحسن الاستبصار في ملتقى الليل والنهار حتى يؤتى العبد نور حسن بتبين ذلك على دقته ورقته وقد كان أنزل هذا المثل دون بيان ممثوله حتى أخذ أعرابي ينظر إلى خيطين محسوسين فأنزل {من الفجر} يعني فبين الأبيض، فأخرجه بذكر المشبه من الاستعارة إلى التشبيه لأن من شرائطها أن يدل عليها الحالة أو الكلام، وهذه الاستعارة وإن كانت متعارفة عندهم قد نطقت بها شعراؤهم وتفاوضت بها فصحاؤهم وكبراؤهم لم يقتصر عليها، وزيد في البيان لأنها خفيت على بعض الناس منهم عدي بن حاتم رضي الله تعال عنه، فلم تكن الآية مجملة ولا تأخر البيان عن وقت الحاجة، ولو كان الأمر كذلك ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم على عدي رضي الله تعالى عنه عدم فهمها.
وقال الحرالي في كتاب له في أصول الفقه بناء على أنها مجملة: والخطاب بالإجمال ممكن الوقوع وليس يلزم العمل به فالإلزام تكليف ما لا يطاق وإلزام العمل يستلزم البيان وإلا عاد ذلك الممتنع، وتأخير بيان المجمل إلى وقت الإلزام ممكن، لأن في ذلك تناسب حكمة الوحي المنزل بحكمة العالم المكون، فإن الإجمال في القرآن بمنزلة نطق الأكوان والبيان فيه بمنزلة تخطيط الصور وذلك ظاهر عند من زاوله، وحينئذ فلا يقال: خطاب الإجمال عديم الفائدة لأنه يفيد تدريج حكمة التنزيل وتحصيل بركة التلاوة، وفي الاقتصار على بيانه نمط من فصاحة الخطاب العربي حيث لم يكن فيه ذكر الممثولين اكتفاء بأحدهما عن الآخر، ففيه تأصيل لأصل البيان من الإفهام حيث لم يقل: من الليل، كما قال: من الفجر، اكتفاء بما في الفهم من الذكر، وفي وقوع المبين إثر غير مثله نمط آخر من فصاحة الخطاب العربي لأن العرب يردون الثالث إلى الأول لا إلى الثاني ليتعلق بالأول في المعنى وينتظم بالثاني في اللفظ فيكون محرز المحل المفهوم راجعاً إلى الأول بالمعنى- انتهى. وأوضح دليل على إيجاب التبييت أمره بالإتمام، فإنه لما وقع الشروع فيه فالتقدير: فإذا تبين الفجر الذي أمرتم بمراقبته لكونه غاية لما أحل لكم فصوموا أي أمسكوا عن المفطر {ثم أتموا} ذلك {الصيام إلى الليل} والتعبير بثم إشارة إلى بعد ما بين طرفي الزمان الذي أحل فيه المفطر. وقال الحرالي: فكان صوم النهار إتماماً لبدء من صوم ليلة فكأنه في الليل صوم ليس بتام لانثلامه للحس وإن كان في المعنى صوماً، ومن معناه رأى بعض العلماء الشروع في الاعتكاف قبل الغروب لوجه مدخل الليل في الصوم التام بالعكوف وإضافة الليل للنهار في حكم صوم ما وهو في النهار تمام بالمعنى والحس، وإنما ألزم بإتمام الصوم نهاراً واعتد به ليلاً وجرى فيه الأكل والنكاح بالأمر لأن النهار معاش فكان الأكل فيه أكلاً في وقت انتشار الخلق وتعاطي بعضهم من بعض فيأنف عنه المرتقب، ولأن الليل سبات ووقت توف وانطماس، فبدأ فيه من أمر الله ما انحجب ظهوره في النهار، كأن المُطعم بالليل طاعم من ربه الذي هو وقت تجليه «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا» فكأن الطاعم في الليل إنما أطعمه الله وسقاه، فلم يقدح ذلك في معنى صومه وإن ظهر صورة وقوعه في حسه كالناسي بل المأذون له أشرف رتبة من الناسي- انتهى.
ولما كان الصوم شديد الملابسة للمساجد والاعتكاف وكانت المساجد مظنة للاعتكاف وكان سبحانه قد أطلق في صدر الآية الإذن في الوطء في جميع الأماكن والأحوال غير حال الصوم خص من سائر الأحوال الاعتكاف ومن الأماكن المساجد فعقب ذلك بأن قال: {ولا تباشروهن} أي في أي مكان كان {وأنتم عاكفون} أي بايتون مقيمون أو معتكفون، ومدار مادة عكف على الحبس أي وأنتم حابسون أنفسكم لله {في المساجد} عن شهواتها بنية العبادة و{في المساجد} ظرف لعاكفون، فتحرم المباشرة في الاعتكاف ولو في غير المسجد، وتقييد الاعتكاف بها لا يفهم صحته في غير مسجد، فإنه إنما ذكر لبيان الواقع وليفهم حرمة الجماع في المساجد، لأنه إذا حرم تعظيماً لما هي سبب لحرمته ومصححة له كانت حرمته تعظيماً لها لنفسها أولى، أو يقال وهو أحسن: لما كان معنى العكوف مطلق الحبس قيده بالمسجد ليفهم خصوص الاعتكاف الذي هو الحبس عبادة، فصار كأنه قال: وأنتم معتكفون، هذا معنى المبتدأ والخبر وما تعلق به، وكأنه جرّد الفعل ليشمل ما إذا كان اللبث في المسجد بغير نية، والحاصل أنه سبحانه وتعالى سوى بين حال الصوم حال الاعتكاف في المنع من الجماع، فإن اجتمعا كان آكد، فإن الاعتكاف من كمال الصوم وذلك على وجه منع من المباشرة في المسجد مطلقاً.
قال الحرالي: وإنما كان العاكف في المسجد مكملاً لصومه لأن حقيقة الصوم التماسك عن كل ما شأن المرء أن يتصرف فيه من بيعه وشرائه وجميع أغراضه فإذا المعتكف المتماسك عن التصرف كله إلاّ ما لا بد له من ضرورته والصائم المكمل صيامه والمتصرف الحافظ للسانه الذي لا ينتصف بالحق ممن اعتدى عليه هو المتمم للصيام، ومن نقص عن ذلك فانتصف بالحق ممن اعتدى عليه فليس بمتمم للصيام، فمن أطلق لسانه وأفعاله فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فإذا حقيقة الصوم هو الصوم لا صورته حتى ثبت معناه للأكل ليلاً ونهاراً، قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر» وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة أيام من كل شهر فذلك صوم الدهر» وكان بعض أهل الوجهة من الصحابة يقول قائلهم: أنا صائم، ثم يرى يأكل من وقته فيقال له في ذلك فيقول: قد صمت ثلاثة أيام من هذا الشهر، فأنا صائم في فضل الله مفطر في ضيافة الله، كل ذلك اعتداد من أهل الأحلام والنُّهى بحقيقة الصوم أكثر من الاعتداد بصورة ظاهرة- انتهى بمعناه.
ولما قدم سبحانه وتعالى ذكر هذه الحرمات ضمن ما قدم في الأحكام أما في المناهي فصريحاً وأما في الأوامر فلزوماً وتقدم فيها لأن حمله سبحانه وتعالى في الأرض محارمه نبه على تعظيمها وتأكيد تحريمها باستئناف قوله مشيراً بأداة البعد: {تلك} أي الأحكام البديعة النظام العالية المرام {حدود الله} وذكر الاسم الأعظم تأكيداً للتعظيم، وحقيقة الحد الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر، فأطلق هنا على الحكم تسمية للشيء باسم جزئه بدلالة التضمن وأعاد الضمير على مفهومه المطابق استخداماً فقال: {فلا تقربوها} معبراً بالقربان، لأنه في سياق الصوم والورع به أليق، لأن موضوعه فطام النفس عن الشهوات فهو نهي عن الشبهات من باب «من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» فيدخل فيه مقدمات الجماع فالورع تركها.
ولما علا هذا البيان إلى حد لا يدركه حق إدراكه الإنسان كان كأنه قال دهشاً: هل يحصل بيان مثله لشيء غير هذا؟ فقيل بياناً للواقع وتشويقاً إلى التلاوة وحثاً على تدبر الكتاب الذي هو الهدى لا ريب فيه: {كذلك} أي مثل هذا البيان العلي الشأن {يبين الله} لما له من العظمة التي لا تحصر بحد ولا تبلغ بعد {آياته} التي يحق لعظمتها أن تضاف إليه وقال: {للناس} إشارة إلى العموم دلالة على تمام قدرته بشمول علمه إلى أن يصل البيان إلى حد لا يحصل فيه تفاوت في أصل الفهم بين غبي وذكي، وعلل ذلك بقوله: {لعلهم يتقون} أي ليكون حالهم حال من يرجى منه خوف الله تعالى لما علموا من هذا البيان من عظمته، وأشعر هذا الإبهام أن فيهم من لا يتقي.
ولما أذن سبحانه وتعالى فيما كان قد منع منه من المطعم والمنكح للصائم وقدم المنكح لأنه أشهى إذ الطبع إليه أدعى ولأن المنع منه كان في جميع الشهر فالضرر فيه أقوى، وأتبعه الإذن في الأكل لأنه قوام الجسم وأولاه المنع من النكاح في بعض الأحوال، فعل كذلك في المال الذي منه الأكل لأنه قد كان مما خان فيه أهل الكتاب عهد كتابهم واشتروا به ثمناً قليلاً كثيراً من أمره لا سيما تحريم الرشوة فإنهم أخفوه واستباحوها حتى صارت بينهم شرعاً متعارفاً وكان طيب المطعم محثوثاً عليه لا سيما في الصوم فنهى عن بعض أسباب تحصيل المال أعم من أن تكون رشوة أو غيرها فقال: {ولا تأكلوا} أي يتناول بعضكم مال بعض، ولكنه عبر بالأكل لأنه المقصد الأعظم من المال.
ولما كان المال ميالاً يكون في يد هذا اليوم وفي يد غيره غداً فمن صبر وصل إليه ما كتب له مما في يد غيره بالحق ومن استعجل وصل إليه بالباطل فحاز السخط ولم ينل أكثر مما قدر له قال: {أموالكم} وقال: {بينكم} تقبيحاً لهذه المعصية وتهييجاً على الأمر بالمعروف {بالباطل} وهو ما لم يأذن به الله بأي وجه كان سواء كان بأصله أو بوصفه.
ولما كان من وجوه أكله بالباطل التوصل بالحاكم بحجة باطلة يعجز الخصم عن دفعها كما قال صلى الله عليه وسلم: «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على حسب ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» فيكون الإثم خاصاً بالأكل دون الحاكم عطف عليه ما يشاركه فيه الحاكم فقال عاطفاً على {تأكلوا} {وتدلوا} أي ولا تتواصلوا في خفائها {بها إلى الحكام} بالرشوة العمية للبصائر، من الإدلاء. قال الحرالي وهو من معنى إنزال الدلو خفية في البئر ليستخرج منه ماء فكأن الراشي يدلي دلو رشوته للحاكم خفية ليستخرج جوره ليأكل به مالاً- انتهى. {لتأكلوا فريقاً} أي شيئاً يفرق بينه وبين صاحبه {من أموال الناس} من أي طائفة كانوا {بالإثم} أي الجور العمد، ومن مدلولاته الذنب وأن يعمل ما لا يحل {وأنتم} أي والحال أنكم {تعلمون} أي من أهل العلم مطلقاً فإن الباطل منهم أشنع ويلزم منه العلم بأن ذلك التوصل لا يفيد الحل، ولعله إيماء إلى جواز التوصل إلى ماله عند جاحد لم يجد طريقاً إلى خلاصه إلا ذلك. وقال الحرالي في مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما كان منزل القرآن لإقامة الأمور الثلاثة التي بها قيام المخاطبين به وهو صلاح دينهم وهو ما بين العبد وربه من عمل أو إلقاء بالسلم إليه وإصلاح دنياهم وهو ما فيه معاش المرء وإصلاح آخرتهم وهو ما إليه معاده كان لذلك منزل القرآن مفصلاً بأحكام تلك الأمور الثلاثة فكان شذرة للدين وشذرة للدنيا وشذرة للآخرة، فلما كان في صدر هذا الخطاب {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة: 168] وهو خطاب للملوك ومن تبعهم من رؤساء القبائل ومن تبعهم انتظم به بعد ذلك حكم من أحكام أهل العلم ومن تبعهم في قوله تعالى: {إن الذين يكتمون} [البقرة: 159]، ثم انتظم به ذكر الوصية من أهل الجدة، ثم انتظم به ذكر أحوال الرشى من الراشي والمرتشي، ليقع نظم التنزيل ما بين أمر في الدين ونهي في الدنيا ليكون ذلك أجمع للقلب في قبول حكم الدنيا عقب حكم الدين ويفهم حال المعاد من عبرة أمر الدنيا، فلذلك تعتور الآيات هذه المعاني ويعتقب بعضها لبعض ويتفصل بعضها ببعض، كما هو حال المرء في يومه وفي مدة عمره حيث تعتور عليه أحوال دينه ودنياه ومعاده، يطابق الأمر الخلق في التنزيل والتطور- انتهى.


ولما أتم سبحانه وتعالى البيان لما أراده مما شرعه في شهر الصوم ليلاً ونهاراً وبعض ما تبع ذلك وكان كثير من الأحكام يدور على الهلال لا سيما أحد قواعد الإسلام الحج الذي هو أخو الصوم وكانت الأهلة كالحكام توجب أشياء وتنفي غيرها كالصيام والديون والزكوات وتؤكل بها الأموال حقاً أو باطلاً وكان ذكر الشهر وإكمال العدة قد حرك العزم للسؤال عنه بين ذلك بقوله تعالى: {يسئلونك} وجعل ذلك على طريق الاستئناف جواباً لمن كأنه قال: هل سألوا عن الأهلة؟ فقيل: نعم، وذلك لتقدم ما يثير العزم إلى السؤال عنها صريحاً فكان سبباً للسؤال عن السؤال عنها، وكذا ما يأتي من قوله: {يسئلونك ماذا ينفقون} [البقرة: 215] {يسئلونك عن الشهر الحرام} [البقرة: 217] {يسئلونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219] بخلاف ما عطف على ما قبله بالواو كما يأتي، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الأنعام ما ينبغي من علم النجوم وما لا ينبغي {عن الأهلة} أي التي تقدم أنه ليس البر تولية الوجه قبل مشارقها ومغاربها: ما سبب زيادتها بعد كونها كالحظ أو الخيط حتى تتكامل وتستوي ونقصها بعد ذلك حتى تدق وتنمحق؟ قال الحرالي: وهي جمع هلال وهو ما يرفع الصوت عند رؤيته فغلب على رؤية الشهر الذي هو الهلال- انتهى.
ولما كان كأنه قيل: ما جوابهم؟ قيل: {قل} معرضاً عنه لما لهم فيه من الفتنة لأنه ينبني على النظر في حركات الفلك وذلك يجر إلى علم تسيير النجوم وما يتبعه من الآثار التي تقود إلى الكلام في الأحكام المنسوبة إليها فتستدرج إلى الإلحاد وقد ضل بذلك كثير من الأمم السالفة والقرون الماضية فاعتقدوا تأثيرها بذواتها وقد قال عليه الصلاة والسلام ناهياً عن ذلك لذلك: «من اقتبس علماً من النجوم اقتبس باباً من السحر زاد ما زاد» أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ وقال علي رضي الله تعالى عنه: «من طلب علم النجوم تكهن» مرشداً سبحانه وتعالى إلى ما فيه صلاحهم: {هي مواقيت} جمع ميقات من الوقت وهو الحد الواقع بين أمرين أحدهما معلوم سابق والآخر معلوم به لاحق. وقال الأصبهاني: والفرق بين الوقت والمدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى الزمان، والزمان مدة مقسومة، والوقت الزمان المفروض لأمر ما. {للناس} في صومهم كما تقدم ومعاملاتهم ليعلموا عدد السنين والحساب {والحج} صرح به لأنه من أعظم مداخلها. قال الحرالي: وهو حشر العباد إلى الموقف في شهور آخر السنة، فهو أمر ديني مشعر بختم الزمان وذهابه لما فيه من آية المعاد- انتهى.
ولما كانوا قد اعتادوا في الحج فعلاً منكراً وكان ترك المألوفات أشق شيء على النفوس، ولذلك قال أهل الطريق وسادات أهل التحقيق: ملاك القصد إلى الله تعالى خلع العادات واستجداد قبول الأمور المنزلات من قيوم السماوات والأرض، وبذلك كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم سادات أهل الإسلام، قال تعالى عاطفاً على {ليس البر} مقبحاً لذلك الفعل عليهم منبهاً على أنهم عكسوا في سؤالهم كما عكسوا في فعالهم، ويجوز أن يكون معطوفاً على حال دل عليها السياق تقديرها: والحال أنه ليس البر سؤالكم هذا عنها {وليس البر} وأكد النفي بزيادة الباء في قوله: {بأن تأتوا البيوت} أي لا الحسية ولا المعنوية {من ظهورها} عند القدوم من الحج أو غيره كما أنه ليس البر بأن تعكسوا في مقالكم بترك السؤال عما يعنيكم والسؤال عما لا يعنيكم بل يعنيكم.
ولما نفي البر عن ذلك كما نفي في الأول استدرك على نهج الأول فقال: {ولكن البر} قال الحرالي: بالرفع والتخفيف استدراكاً لما هو البر وإعراضاً عن الأول، وبالنصب والتشديد مع الالتفات إلى الأول لمقصد طرحه- انتهى. {من اتقى} فجعل المتقي نفس البر إلهاباً له إلى الإقبال على التقوى لما كانت التقوى حاملة على جميع ما مضى من خلال الإيمان الماضية اكتفى بها. ولما كان التقدير: فاتقوا فلا تسألوا عما لا يهمكم في دينكم عطف عليه: {وأتوا البيوت من أبوابها} حساً في العمل ومعنى في التلقي، والباب المدخل للشيء المحاط بحائط يحجزه ويحوطه- قاله الحرالي. وتقدم تعريفه له بغير هذا.
ولما كان الأمر بالتقوى قد تقدم ضمناً وتلويحاً أتى به دالاً على عظيم جدواها ذكراً وتصريحاً دلالة على التأكيد في تركهم تلك العادة لاقتضاء الحال ذلك لأن من اعتاد شيئاً قلّ ما يتركه وإن تركه طرقه خاطره وقتاً ما فقال: {واتقوا الله} أي الملك الأعظم في كل ما تأتون وما تذرون ووطنوا النفوس واربطوا القلوب على أن جميع أفعاله تعالى حكة وصواب من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الإيهام بمفارقة الشك، ثم علله بقوله: {لعلكم تفلحون} أي لتكون حالكم حال من يرجى دوام التجدد لفلاحه وهو ظفره بجميع مطالبه من البر وغيره، فقد دل سياق لآية على كراهة هذا السؤال؛ وذكر الحرالي أن أكثر ما يقع فيه سؤال يكون مما ألبس فتنة أو شرب محنة أو أعقب بعقوبة ولذلك قال تعالى: {لا تسألوا عن أشياء} [المائدة: 101] وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وقال: «دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم» الحديث ومنه كره الرأي وتكلف توليد المسائل لأنه شغل عن علم التأصيل وتعرض لوقوعه كالذي سأل عن الرجل يبتلي في أهله فابتلى به، ويقال: كثرة توليد مسائل السهو أوقع فيه.
وقال: وهذه الآية كالجامعة الموطئة لما ذكر بعدها من أمر توقيت القتال الذي كانوا عليه كما كان من أمر الجاهلية حكم التحرج من القتال في الأشهر الحرم والتساهل فيه في أشهر الحل مع كونه عدوى بغير حكم حق فكان فيه عمل بالفساد وسفك الدماء- انتهى وفيه تصرف. فمحا سبحانه ما أصلوه من ذلك بما شرعه من أمر القتال لكونه جهاداً فيه لحظ من حظوظ الدنيا.
ولما ذكر سبحانه الحج في هذه السورة المدنية وكان سبيله إذ ذاك ممنوعاً عن أهل الإسلام بأهل الحرب الذين أخرجوهم من بلدهم ومنعوهم من المسجد الذي هم أحق به من غيرهم وكان الحج من الجهاد وكان كل من الصوم والجهاد تخلياً من الدنيا «سياحة أمتي الصوم، ورهبانية أمتي الجهاد» وكانت أمهات العبادات موقتة وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير موقتة وهي الذكر والجهاد وهو قتال أهل الحرب خلافاً لما كان عند أهل الجاهلية من توقيته مكاناً بغير الحرم وزماناً بغير الأشهر الحرم وكان القتال في الأشهر الحرم وفي الحرم في غاية المنع فكيف عند المسجد وكان سبحانه قد ذكر العبادات الموقتة أتبعها بغير الموقتة وهي الجهاد الذي هو حظيرة الموقتة الذي لا سلامة لها بدونه التفاتاً إلى الظالمين بالمنع عن المسجد الحرام والإخراج منه فأمر بأن يفعل معهم مثل ما فعلوا من القتال والإخراج فعل الحكيم الذي يوصي بالشيء العظيم فهو يلقيه بالتدريج في أساليب البلاغة وأفانين البيان تشويقاً إليه وتحريضاً عليه بعد أن أشار لأهل هذا الدين أولاً بأنه يخزي ظالميهم وثانياً بأن المقتول منهم حي يرزق وثالثاً بمدحهم على الصبر في مواطن البأس بأنهم الذين صدقوا وأنهم المتقون فلما شوقهم إلى جهاد أهل البغي والعناد ألزمهم القتال بصيغة الأمر لتيسير باب الحج الذي افترضه وسبيله ممنوع بأهل الحرب فقال تعالى وقيل: إنها أول آية نزلت في القتال، قاله الأصبهاني: {وقاتلوا في سبيل الله} أي الذي لا كفوء له إشعاراً بذكره على سبيل الإطلاق بعد الموقت بالهلال إلى أنه غير موقت به. قال الحرالي: من حيث إنه حظيرة على دين الإسلام المقيد بالمواقيت من حيث إن الإسلام عمل يقيده الوقت، والدفع عنه أمر لا يقيده وقت بل أيان طرق الضر لبناء الإسلام دفع عنه كما هو حكم الدفع في الأمور الدينية، فكانت الصلاة لمواقيت اليوم والليلة، والصوم والحج لمواقيت الأهلة، والزكاة لميقات الشمس، والجهاد لمطلق الميقات حيث ما وقع من مكان وزمان ناظراً بوجه ما لما يقابله من عمود الإسلام الذي هو ذكر كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله على الدوام {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} [الأحزاب: 41] {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] انتهى. وقال {الذين يقاتلونكم} أي من شأنهم قتالكم لا من ليس شأنه ذلك كالصبيان؛ وفيه إشعار بأن القتال عن سبب المقاتلة فهو مما يفعل عن سبب لا مما يفعل لوقت، وصيغة المضارع لم يقصد بها إلا صدور الفعل من غير نظر إلى زمان مخصوص كما قالوه في أمثاله.
ولما كان الله سبحانه وتعالى قد أوجب العدل في كل شيء حتى في حق أعدائه قال: {ولا تعتدوا} فنظم ذلك ابتداء القتال لمن لم يبح له ابتداءه به إما بعهد أو بغير دعوة لمن لم يبلغه أمر الدين أو بغير ذلك من أنواع الخيانة والغدر وقتل النساء والصبيان والشيوخ الفانين الذين لا منعة فيهم ولا رأي لهم، ودوام القتال لمن ألقى السلم بعد الابتداء به، فحذف المتعلق اختصاراً فأفاد زيادة المعنى وهو من غريب أفانين البلاغة وكأنه أفهم بصيغة الافتعال التقييد بالتعمد، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي لما له من صفات الكمال {لا يحب المعتدين} مطلقاً في هذا وغيره، أي لا يفعل بهم من الخير فعل المحب.
ولما حرم الاعتداء صرح بإباحة أصل القتال فقال: {واقتلوهم} أي الذين يقاتلونكم {حيث ثقفتموهم} أي وجدتموهم وأنتم تطمعون في أن تغلبوا أو حيث تمكنتم من قتلهم- قاله الأصبهاني، لأنه من ثقف بالضم ثقافة إذا صلب وثقف أي بالكسر كذلك، وأيضاً صار حاذقاً فطناً، وثقفت الشيء ثقفاً إذا أخذته والشيء صادفته- قاله ابن القطاع. وقال الأصبهاني: والثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة، وأطلق الوجدان فشمل الحل والحرم من الزمان والمكان لأنهم كذلك يفعلون بالمسلمين، كانوا يؤذونهم ويفتنونهم عند البيت في كل وقت؛ وفي التعبير بالفعل ما يشعر بالنصر بحزب الله وبشرى بضعف العدو عن مداومة المقاومة للمجاهدين وقد ظهرت التجربة مثل ذلك وأقله أنهم إذا فروا لم يكروا.
ولما كانت الآية ناظرة إلى قصاص قال: {وأخرجوهم} أي فإن لم يقاتلوكم {من حيث أخرجوكم} أي مكة التي هي موطن الحج والعمرة ومحل الشعائر المقصودة لأهل الإسلام. ولما كان هذا مشعراً بأنهم لم يكن منهم إليهم قتال في مكة لغير الأذى المحوج إلى الخروج من الديار على أن التقدير: فإن الإخراج من السكن أشد فتنة وقد فتنوكم به، فعطف عليه قوله: {والفتنة} أي العذاب بالإخراج أو غيره من أنواع الإخافة {أشد} تليينهم للإسلام {من القتل} أعم من أن يكون المراد من قتلكم إياهم في الحرم أو غيره أو قتلهم إياكم أو غير ذلك لما فيه من مواصلة الغم القابض للنفس عن مراداتها، فلذلك سوغنا لكم قتلهم قصاصاً بسبب إخراجكم، فكان المراد بالذات إخراجهم لتمكن الحج والاعتمار ولكنه لما لم يمكن إلا بقتالهم وقتلهم أذن فيهما وقد كشف الواقع في أمر: عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وعبد الله بن أبي ربيعة أن الإخراج من مكة لينهم للإسلام أكثر من تليين القتل فإنهم أسلموا لما أشرفوا على فراق مكة بظهور الإسلام فيها ولم يسلم أحد من قريش خوفاً من القتل، فلكون السياق لإخراجهم عبر هنا أشد.
ولما كان الإذن في الإخراج مستلزماً في العادة للقتال وكان قد أذن في الابتداء به حيث ثقفوا خصص ذلك فقال ناظراً إلى المقاصّة أيضاً ومشيراً إلى ما سيقع في غزوة الفتح المشار إليها بقوله بعد {وكفر به والمسجد الحرام} [البقرة: 217] {ولا تقاتلوهم} أي هؤلاء الذين أذن لكم في إخراجهم {عند المسجد الحرام} أي الحرم إذا أردتم إخراجهم فمانعوكم {حتى يقاتلوكم فيه} أي في ذلك الموضع الذي هو عند المسجد، وكأنه عبر بفيه في الثاني وعند في الأول والمراد الحرم في كل منهما كفاً، عن القتال فيه مهما وجد إلى الكف سبيل تعظيماً له وإجلالاً لمحله لأنه موضع للصلاة التي أعظم مقاصدها السجود لا لغيره فضلاً عن القتال. {فإن قاتلوكم} أي في ذلك المكان {فاقتلوهم} أي لا تقصروا على مدافعتهم بل اصدقوهم في الضرب المجهز ولا حرج عليكم من جهة المسجد فإن الانتهاك لحرمته منسوب إلى البادئ، وفي التعبير بالفعل في جواب المفاعلة في قراءة الجمهور أو الفعل في قراءة حمزة والكسائي بشارة بنصرة المبغي عليه وقوة إدالته، ولما كان هذا مفهماً أنه خاص بهم عمم بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الفعل العظيم الجدوى {جزاء الكافرين} كلهم.
ولما كان النزوع بعد الشروع لا سيما حالة الإشراف على الظفر عسراً على الأنفس الأبية والهمم العلية قال: {فإن انتهوا} أي عن القتال ومقدماته، وفيه إشعار بأن طائفة منهم تنتهي فإن العالم بكل شيء لا يعبر بأداة الشك إلا كذلك. ولما كان التقدير: فكفوا عنهم ولا تعرضوا لهم فإن الله قد غفر لهم علله بأمر عام فقال: {فإن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {غفور رحيم} أي له هاتان الصفتان أزلاً وأبداً فكل من تاب فهذا شأنه معه.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14